الفصل الثالث
في المواقيت وأنواع الأنساك
المواقيت نوعان : زمانية ومكانية.
فالزمانية للحج خاصة، أما العمرة فليس لها زمن معين لقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)(البقرة: الآية197) وهي ثلاثةٌ شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وأما المكانية فهي خمسة، وقّتها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففي « الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : « وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجد قَرن المنازل، ولأهل اليمن يَلَملَم، فهنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهنّ فمَهِلُّه من أهلِه، وكذلك حتى أهل مكة يُهلُّون منها».
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ( ذات عِرْق ) رواه أبو داود والنسائي.
فالأول : ذو الحليفة ويسمى ( أبيار علي ) بينه وبين مكة نحو عشر مراحل، وهو ميقات أهل المدينة ومن مرّ به من غيرهم.
الثاني : الجحفة، وهي قرية قديمة بينها وبين مكة نحو ثلاث مراحل، وقد خربت فصار الناس يُحرمون من رابغ بدلاً عنها وهي ميقات أهل الشام ومن مر بها من غيرهم إن لم يمروا بذي الحليفة قبلها، فإن مروا بها لزمهم الإحرام منها.
الثالث : قرن المنازل؛ ويسمى ( السيل ) وبينه وبين مكة نحو مرحلتين، وهو ميقات أهل نجد ومن مر به من غيرهم.
الرابع : يلملم وهو جبل أو مكان بتهامة، بينه وبين مكة نحو مرحلتين، ويسمى ( السعدية ) وهو ميقات أهل اليمن ومن مر به من غيرهم.
الخامس : ذات عرق، ويسمى عند أهل نجد ( الضريبة ) بينها وبين مكة مرحلتان، وهي لأهل العراق ومن مر بها من غيرهم.
وَمَن كان أقربَ إلى مكة من هذه المواقيت فميقاته مكانه فَيُحرم منه، حتى أهل مكة يحرِمون من مكة، إلا في العمرة فيحرم من كان في الحَرَم من أدنى الحلّ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعبدالرحمن بن أبي بكر : « اخْرُج بأُختِك ـ يعني عائشة لما طلبت منه العمرة ـ من الحَرَم فَلتُهِل بعمرة» متفق عليه.
ومن كان طريقه يميناً أو شمالاً من هذه المواقيت فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فإن لم يُحاذِ ميقاتاً مثل أهل سواكنَ في السودان ومن يمر من طريقهم فإنهم يحرمون من جُدّة.
ولا يجوز لمن مر بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزها إلا محرماً، وعلى هذا فإذا كان في الطائرة وهو يُريد الحج أو العمرة، وجب عليه الإحرام إذا حاذى الميقات من فوقه، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه عقد نية الإحرام فوراً.
ولا يجوز له تأخيره إلى الهبوط في جُدّة، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى، وقد قال سبحانه : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)(الطلاق:1) ،(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة: 229)، (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)(النساء:14) .
ومن مَرّ بالمواقيت وهو لا يريد حَجّاً ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يُحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك لأن في « الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في ذكر المواقيت قال : ومن كان دون ذلك فَمِن حيث أنشأ، وإذا مرّ بهذه المواقيت وهو لا يريد الحج ولا العمرة وإنما يريد مكة لغرض آخر كطلب علم، أو زيارة قريب، أو علاج مرض، أو تجارة أو نحو ذلك فإنه لا يجب عليه الإحرام إذا كان قد أدى الفريضة، لحديث ابن عباس السابق وفيه : « هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة»، فإن مفهومه أن من لا يريدهما لا يجب عليه الإحرام.
وإرادة الحج والعمرة غير واجبة على من أدى فريضتهما، وهما لا يجبان في العُمرِ إلا مرة واحدة، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم حين سُئل هل يجب الحج كل عام ؟ قال : « الحج مرة فما زاد فهو تطوع».
والعمرة كالحج لا تجب إلا مرة في العمر.
لكن الأولى لمن مر بالميقات أن لا يدع الإحرام بعمرة أو حج إن كان في أشهرهِ، وإن كان قد أدى الفريضة ليحصل له بذلك الأجر، ويخرج من الخلاف في وجوب الإحرام عليه.
أنواع الأنساك ثلاثة
الأول : التمتع بالعمرة إلى الحج، وهو أن يُحرم في أشهر الحج بالعمرة وحدها، ثم يفرغ منها بطواف وسعي وتقصير، ويحل من إحرامه، ثم يحرم بالحج في وقته من ذلك العام.
الثاني : القران؛ وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يُحرم بالعمرة أولاً ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، وسعى بين الصفا والمروة للعمرة والحج سعياً واحداً، ثم استمرّ على إحرامه حتى يُحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي عن طواف القدوم إلى ما بعد طواف الحج، لا سيما إذا كان وصوله إلى مكة متأخراً وخاف فوات الحج إذا اشتغل بالسعي.
الثالث : الإفراد؛ وهو أن يُحرم بالحج مفرداً، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، وسعى للحج، واستمر على إحرامه حتى يحل منه يوم العيد.
ويجوز أن يؤخر السعي إلى ما بعد طواف الحج كالقارن.
وبهذا تبين أن عمل المُفرد والقارن سواء، إلا أن القارن عليه الهديُ لحصول النُّسُكين له دون المفرد.
وأفضل هذه الأنواع التمتع، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر به أصحابه وحثهم عليه، بل أمرهم أن يُحولوا نية الحج إلى العمرة من أجل التمتع.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سُئل عن متعةِ الحج ؟ فقال : « أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال النبي صلى الله عليه وسلّم : « اجعلوا إهلالكم بالحج عُمرةً إلا من قَلّد الهدي» فَطُفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب ) رواه البخاري وعن جابر رضي الله عنه قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مُهلين بالحج، معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طُفنا بالبيت والصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : « من لم يكن معه هديٌ فَليحلُل»، قال : قلنا : أي الحل ؟! قال : « الحلُّ كله». قال : فأتينا النساء، ولبسنا الثياب ومَسَسنا الطيب، فلما كان يومُ التروية أهللنا بالحج» رواه مسلم. وفي رواية له قال : « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : « قد علمتُم أني أتقاكم لله، وأصدقكم وأبرُّكم، ولولا هَديي لأحللت كما تُحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهديَ، فَحِلُّوا». فَحللنا وسَمِعنا وأطعنا». فهذا صريح في تفضيل التمتع على غيره من الأنساك لقوله صلى الله عليه وسلّم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهديَ»، ولم يمنعه من الحِلِّ إلا سوقُ الهدي، ولأنّ التمتُّع أيسر على الحاج، حيث يتمتع بالتحلل بين الحج والعمرة، وهذا هو الذي يُوافق مُرادَ الله عزّ وجل حيث قال سبحانه
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:185)،وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: « بُعِثتُ بالحنيفية السمحة».(7) هذا وقد يُحرم الحاج بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم لا يتمكن من إتمامها قبل الوقوف بعرفة، ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة قبل الشروع في طوافها ويصير قارناً، ولذلك مثالان :
المثال الأول :
امرأةٌ أحرمت بالعمرة متمتعة بها إلى الحج، فحاضت أو نَفِست قبل أن تطوف، ولم تَطهر قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنها تُحرم بالحج وتصير قارنة، وتفعل ما يفعله الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة حتى تطهر وتغتسل.
المثال الثاني :
شخص أحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فلم يتمكن من الدخول إلى مكة قبل وقت الوقوف بعرفة، فإنه يُدخِلُ الحج على العمرة ويصير قارناً لتعذُّر إكمال العمرة منه.
-------------------
(7) رواه أحمد (6/116 و 233) عن عائشة وحسنه السخاو في " المقاصد الحسنة " (214) والمناوي في " فيض القدير " (3/203).